الــغـربة والمـكــان فـي الأغـنـيـة الـيـمـنـيـةبقلمي

اعتاد الإنسان على الترحال منذ أن وطأ الأرض .. لتتبع أسباب العيش ومسالك
الرزق ، لكن محوره الأول الذي بدأت منه أول خطوة للحياة .. والذي عرف فيه
نفسه .. يبقى دائماً مصدر حنينه وأمل مستقبله وناقوساً يدق في حجن العودة
.. ليناثر ألم الفراق ..

والإنسان اليمني - كجزء من هذا الإنسان قد عشق الترحال وتفنن في رسم ملامح
ذكرياته وفارق أرضه ووطنه وأهله طلباً للرزق، لكن الوطن والأهل والمكان هم
من ظلوا يشعلون ثقاب الغربة والشعور بمرارة النزوح .. ليتحول إلى وقود من
الذكرى يطارد هذا الإنسان في كل لحظة في نومه وفي هواجسه وفي تسبيحه
وغنائه .. وكان الغناء هو أرقى ما حمل معاني الغربة، وكان الشاعر والفنان
هو من هيج أشجان المغتربين إلى أهاليهم وأوطانهم وهو واحد منهم .. فمنهم
من غلبتهم قوة الجوى فاختاروا الانطواء في زاوية الغربة لاسترجاع الأيام
الخوالي ، ومنهم من أمطرتهم الهواجس دفئاً فطارت أفئدتهم في رحلات الغيم
وأصوات الطيور ومنهم من وجد الأوتار شراعاً لعودته إلى الوطن والأهل
والأحباب فحركها أنغاماً تشق عباب الحزن والبعاد فنسى البكاء ولكنه أبكى
الآخرين..



خارج الوطن

أما الغربة عن الوطن خارج حدوده فكل أغنية يمنية يستمع لها المهاجر وهو
خارج اليمن فإنها تيقظ وتهيج أشجانه إلى أرضه وعمله وحقوله وعندما تنضح
الأغنية بالعاطفة والحب والانتماء .. فإنها تكون أكثر تأثيراً في نفس
المهاجر كونه مفارق أرض وأهل وزوجة وأطفال ولكن طبيعة الحياة وقساوتها
والبحث عن الرزق أجبرته أن يترك أهله وزوجته حتى ولو كان حديث العهد
بالزواج وهذه الأمور الأسرية التي تعد أكثر مرارة لا توجد أغنية أو قصيدة
ترجمتها وترجمت هموم ومتاعب الحياة في فترة مظلمة من تاريخ شعبنا اليمني
أجبرت الإنسان على الهجرة سوى أغنية "بكر مسافر فجر يوم الاثنين" هذه
الأغنية التي لحنها الفنان القدير عبدالباسط عبسي صاحب الصوت الفريد
والمتميز الذي أعطى هذه القصيد الشعبي، الذي لا يعرف قائله حقه في اللحن
وبقدر ما تحمله الأغنية من مسحة حزينة أتى اللحن يجسد أصداء وتأوهات الحزن
والمرارة إلى جانب كون الحوارية التي ينقلها السرد على لسان الزوجة مثيرة
للعواطف والوجدان .. كيف لا .. وقد سردت الأغنية حكاية شاب اسمه "محمود"
بعد أن تزوج بفترة لا تتجاوز الأسبوع كما أوردها نص القصيدة على لسان
الزوجة - ترك زوجته وأوعدها أنه سيعود بعد عام وعلى أمل وصوله بعد مولوده
الأول ومن يغيب فترة طويلة ويربك الأسرة والزوجة حيث لا يعرفون عن مصيره
شيئاً سوى أطياف أحلام ذاوية في منام تنغصه حياة الشقاء والفقر المدقع..

وتبدو هذه الأغنية من أحزن الأغاني وامتزجت بأوتار ينساب خلفها البكاء العذب والمحرق في نفس الوقت..

من كثرة المصروف وقلة الدين

بكر مسافر فجر يوم الاثنين

هكذا تبدو القصيدة من مطلعها تضج بالشكوى على لسان الزوجة الشابة
المتفائلة في الحياة التي سرعان ما انكسرت في وجه تلك الزوجة التي تبوح
حزنها وشكواها في القصيدة في وصف وداعه.


وقت الوداع سلم وقال مودع

لا تحزني ششقي سنة وشرجع

وتسرد العبارات التي قالها لها أثناء رحيله أو سفره متوجهة بالشكوى والخطاب إلى عمتها أم زوجها:


شافارقك بعد الزواج بأسبوع

والعين تدمع والفؤاد موجوع

وبعدها تصف خيبة الأمل والحسرات التي باءت بها وعود الحبيب الغائب بانقطاع
رسائله المكتوبة ورسائله النقدية التي كانت ستعينها في تكاليف الحياة..


واليوم لا مكتوب ولا صدارة

وعود خلي كلها خسارة

ثم تفصح الشكوى لعمتها بطول الليالي وضياع الشباب والأخير لم تعد بالخطاب
والشكوى إلا لابنها ومحاولة إسكات بكائه الذي أحرقها لكن رغم أن أباه
أحرمها السعادة فإنها تؤكد أن والدة مسامح ومعذور إذ أن مصيره غير معروف
حتى تحكم عليه غيابياً..


وصيتي يا ابني تكون شهادة

بأن أبوك أحرمني السعادة

لكن مسامح قد يكون معذور

وربما هو الأخير مقهور


وكثيرة هي الأغاني اليمنية التي أقيضت منامات الحنين إلى الوطن والحقول
ومن تلك الأغاني أغاني أيوب الذي غنى للحجر والشجر والسواقي والمراعي
وكانت أشهر أغانيه في هذا المضمار والتي أعادت الكثير من المهاجرين
وأجبرتهم بعاطفيتها وفنها على شد رحال العودة. ومنها:


ارجع لحولك كم دعاك تسقيه

ورد الربيع من له سواك يجنيه


وأغنية..

بالله عليك وا مسافر إذا لقيت الحبيب

بلغ سلامي وقله لا متى بايغيب


وأخيراً

الغربة في الأغنية لا تتوقف عند حد فهي جزء كبير من بنية القصيدة واللحن
فضلاًً عن كونها جزءاً من حياة الإنسان اليمني المهاجر والذي أجبرته ظروف
الحياة على الاغتراب وإن لم تكن هذه الغربة واضحة في الأغنية كاشتعالها
بالحنين وأسماء الأمكنة .. فهي خفية حيث تكون هناك أساليب أخرى مبطنة
بالغربة ، وإنما هذه سوى نماذج عابرة ودراسة سطحية أتت من باب الفضول
ومتابعة بعض الأحاديث على الغناء اليمني وبعض التناولات النقدية التي
تتحدث عن البنية الفنية للقصيدة المغناة لبعض الدارسين أو المحللين سواء
في البرامج الإذاعية أو في الجلسات الأدبية..


هوامش

1- كان من الصعب تحليل أغنية "أليل أم هوى" لولا استماعي لبرنامج على ضفاف
النغم للأستاذ الشاعر عباس الديلمي والأستاذ علي أحمد السياني من البرنامج
العام " إذاعة صنعاء" فهو البرنامج النقدي الناجح الذي أعطى الأغنية
اليمنية حقها ، وكذلك "أغنية باشل حبك".

2- نصوص الأغاني مأخوذة من الكاستات أو الأشرطة .. والألفاظ غالباً ما
تخضع للحن وعليه نعتذر عن أخطاء قد تحدث في بنية القصيدة والأبيات.