.... فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
سورة الأعراف آية 176
( 1 )
بينما كان نبينا محمد راجعًا من الطائف ،
وقد آذاه أهلُها وقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدميه ركن الى بستان، فبعث أصحابُ البستان إليه قطفًا من العنب مع غلامهم "عدَّاس" .
فقال النبى : باسم الله .. ثم أكل .
فقال عدَّاس : إن أهل هذه البلاد لا يقولون ذلك !
قال النبى : من أى البلاد أنت ؟
قال عدَّاس : من نينوى .
قال النبى : تلك بلد النبى الصالح يونس بن متى ، كان نبيًا وأنا نبى .
وهنا ..
أكب عدَّاس على قدمى النبى يقبلهما .. وأسلم على يديه .
فنظر أصحاب البستان متعجبين ! وقد أخذهم الذهول .
وعند رجوع عدَّاس الى أسياده حكى لهم ما حدث ..
ولكن يبقى سؤال من هم أهل نينوى .. وما قصة وحكاية النبى الصالح يونس بن متى عليه السلام .
............
أما نينوى فمدينة كبيرة تقع على نهر دجلة ..
تتبع حضارة كبيرة قامت فى هذه المنطقة تُعرف بالحضارة الآشورية.
وهى مدينة عامرة بالسكان ، حيث يبلغ عدد سكانها مائة ألف نسمة أو يزيدون .
وأهل نينوى ينحتون التماثيل المرمرية والأصنام الحجرية ، ثم يعبدونها من دون الله سبحانه .
فأرسل اللهُ إليهم رجلاً من بينهم يأمرهم بعبادة الله وحده . ويبين لهم أن هذه التماثيل والأصنام مجرّد حجارة لا تضرّ ولا تنفع .
وكيف يصنعون أشياء بأيديهم ، ثم يتخذونها آلهة تُعبد ..
وهل إذا حطم أحدُهم صنمًا بالفأس .. هل يمتنع الصنمُ منه ؟!
إن الله هو الإله الحق المستحق بالعبادة لأنه هو الذى خلق ورزق ودبَّر .. وهو الذى يضر وينفع ويحيى ويميت ....
ورغم أن أهل نينوى كانوا أناسًا طيبين ، ولكنهم رفضوا دعوة نبيهم يونس عليه السلام .
وظلوا على حالهم يعبدون التماثيل والأصنام ..
و الردُ الوحيد لديهم أنهم وجدوا آبائهم على هذه الحال .. فكيف يتركون عبادة الأًصنام التى عبدها الأباء والأجداد ؟!
وحذّرهم يونس عليه السلام من عاقبة عنادهم . . وحذّرهم من نزول العذاب الإلهي ، إذا ظلّوا على عنادهم وعبادة الأصنام .
فقال القوم : يا يونس ... لا تتعب نفسك فى دعوتنا إلى إلهك فنحن لا نخاف من عذاب الله ولا نؤمن بإلهك فافعل ما بدا لك ..
وضاقت نفسُ يونس عليه السلام من هذه الردود العقيمة ، ومن كثرة دعوته لهم وعدم استجابتهم له .
وظن يونس عليه السلام أن دعوته قد انتهت وليس لها أى تأثير على قومه فاستشاط لذلك غضبًا ..
وخرج يونس عليه السلام بدون أن يأمره الله بمغادرة نينوى وذهب باتجاه البحر .. وكان يترقّب نزول العذاب بأهل نينوى ويتابع أخبارهم من بعيد ..
( 2 )
وبعد ذهاب يونس عليه السلام ، بدت علامات العذاب الإلهى على قومه فانقلب الجوُ تمامًا وأظلمت السماءُ بغيوم سوداء كالحة ، وبدخان في أعالي السماء .
وكان بين أولئك رجلٌ عالمٌ شديدَ النصح لهم ، فدعا قومه إليه
وقال لهم : أنتم تعلمون صدق يونس عليه السلام .. وما جربنا عليه كذبًا قط .. وإن العذاب سينزل عليكم إذا أصررتم على العناد والمكابرة .
فتوبوا إلى الله من عبادة الحجارة والأصنام التى لا تنفع ولا تضر ..
و ارحموا أنفسكم وأولادكم وبلادكم !
وكم سمعنا على أمم أخرى دمرها الله بمجرد خروج نبيها ..
رأى أهل نينوى علامات العذاب . .
و ضرب الرجل الصالح على مواطن التأثير فيهم .. وأراد الله بهم الخير فاستيقظوا وأفاقوا .. ولأول مرة شعر أهل نينوى بالندم ..
فاجتمعوا في صعيد واحد .. وأخذوا الأطفال الرضع من أحضان أمهاتهم حتى يعمّ البكاء ، فبكى الأطفال ، وبكت الأمهات ، و أبعدوا الحيوانات عن المراعي حتى تجوع وتعلوا أصواتها.. فضجت من الجوع ..
وارتفعت أصوات الأطفال والأمهات والحيوانات والكبار والصغار كلها تتضرع الى الله تعالى .. وتطلب رحمته وعفوه فى أصوات من الخوف والإيمان بالله القادر على كشف الضر عنهم ...
فانكشف الدخان شيئًا فشيئًا .. وظهرت السماء مرة أخرى ... وأشرقت الشمس من جديد .
و فرح الناس برحمة الله الواسعة و بنعمة الإيمان و النجـــاة .
وظل أهل نينوى ينتظرون عودة نبيهم ، و لكن دون جدوى لقد ذهب يونس عليه السلام غاضباً ... ولم يعـد ..
فيا ترى .. أين ذهب يونس ؟
( 3 )
أما يونس عليه السلام ...
فقد رأى بعد أن قطع مسافةً طويلةً جماعةً تريدُ الإبحارَ فطلبَ منهم أن يأخذوه معهم ، فقبلوا طلبه وركب معهم السفينة .
وأسدل الليلُ على السفينة .. وانقلب البحرُ فجأة .. هبت عاصفةٌ مخيفة كادت تشق السفينة .. وتعالت الأمواجُ فراحت ترتفعُ كالجبال وتهبط كالوديان.
ووراء السفينة كان حوتٌ عظيمٌ يشق المياه وهو فاتحٌ فمه ..
ومضى الحوتُ يتعقب السفينةَ .. واستمرت العاصفةُ .. وأصدر القبطانُ الأوامرَ بتخفيف أحمال السفينة، فطُرحت الصناديقُ والبضائعُ الغاليةُ رخيصةً لا قيمةَ لها فى سبيل النجاة .
وصاح ربَّانُ السفينةِ ورجالُه قائلين : لقد ثارت العاصفةُ في غير وقتها المعهود .. معنا على سطح السفينة رجل خاطئ ثارت بسببه العاصفة.. سنجري القرعة على الركاب.. من خرج اسمه ألقيناه في البحر ..
وساهم جميع الركاب فى هذه القرعة ومن بينهم كان يونس عليه السلام .. وأُجريت القرعةُ فخرج اسمُ يونس عليه السلام
ورأى ركابُ السفينة و ربَّانُها أن يونس عليه السلام رجلٌ طيبٌ فأعادوا القرعة مرة ثانية .. ومرة ثالثة ، وفى كلِ مرةٍ كان يخرج اسمُ يونس عليه السلام .
انتهى الأمر .. و أدرك يونسُ عليه السلام أنه قد أخطأ لأنه ترك قومه بغير إذن من الله .. والآن فان الله سبحانه وتعالى يعاقبه..
وقف يونس عليه السلام على حاجز السفينة ينظر إلى البحر الهائج والأمواج المتلاطمة .. ثم هوى يونس عليه السلام فى هذه الأمواج المتلاطمة ، وهذا البرد القارس ..
وفجأة اتجه إليه الحوت فابتلعه أمام الركاب جميعًا .. وانصرف به الحوت الى أعماق أعماق البحار ..
وكان يونس عليه السلام لقمة سائغة لأكبر الثدييات البحرية ..
(4)
ووجد يونس عليه السلام نفسه في باطن الحوت الكبير المظلم !
و في تلك اللحظة أدرك يونس عليه السلام انه كان عليه أن يعود إلى نينوى ، لا أن يسافر ويتركهم ..
وبين هذه الظلمات الثلاث .. ظلمة الليل ، ظلمة أعماق البحر وظلمة باطن الحوت هتف يونس :
لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
كان نداءُ يونس عليه السلام نداء الإيمان بالله القادر على كل شيء
شعر يونس عليه السلام انه كان عليه أن يعود إلى نينوى مرّة أخرى لا أن يسافر ويترك قومه .
علم يونس عليه السلام أنه لا نجاة له مما هو فيه إلا اللجوء الى مالك الكون العظيم و خالق الحيتان والبحار .
من أجل هذا راح يونس عليه السلام يسبح لله الخالق البارئ المصوّر .. الذى لا تختلط عنده الأصوات ولا تخفى عليه خافية فى الأرض أو السماوات .
و تمرّ الساعات ، و يونس عليه السلام في باطن الحوت ، و تمرّ الساعات و الحوت يطوف في أعماق المياه . . .
ظل يونس عليه السلام يسبّح لله ، كان يهتف :
لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
و هكذا تمرّ الأيام والليالي حتى تعب الحوت من السباحة فنام فى الأعماق ..
وسمعت الأسماك والحيتان والنباتات وكل المخلوقات التي تعيش في أعماق البحر صوت يونس عليه السلام .. كان التسبيح يصدر من جوف هذا الحوت دون غيره .. واجتمعت كل هذه المخلوقات حول الحوت وراحت تسبح الله هي الأخرى .. كُلٌ بطريقته الخاصة ولغته الخاصة.
واستيقظ الحوتُ الذى ابتلع يونس عليه السلام على أصوات التسبيح هو الآخر.. فشاهد في قاع البحر مهرجانا عظيما من الحيتان والأسماك والحيوانات البحرية والطحالب والصخور والرمال وهي تسبح الله .. واشترك الحوت معهم في التسبيح ..
ومكث يونس في بطن الحوت زمنا لا نعرف مقداره.. ظل طوال الوقت يقوم بتسبيح الله ويقول بقلبه ولسانه ودموعه
لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
بل سمعت ملائكة السماء صوتًا معروفًا لديها ولكنه يأتى من مكان غير معروف .. فقال لهم الله سبحانه : إنه صوت عبدى يونس ، فارتجت الملائكة بالتسبيح والحمد والاستغفار ليونس عليه السلام .
فالتقى تسبيح مَنْ فى باطنِ الحوت .. و مَنْ فى أعماق البحار مع ملائكة السماء ..
وصدق فيهم قول الله تعالى فى سورة الاسراء آية 44...
تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن . وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا
وعلم اللهُ سبحانه وتعالى صِدْقَ يونس عليه السلام في توبته .. سمع الله تعالى تسبيحه في جوف الحوت .. وصدرت الأوامر للحوت أن يخرج إلى سطح البحر ويقذف بيونس عليه السلام من جوفه عند جزيرة حددتها الأوامر الإلهية .. وأطاع الحوت.. .
ولولا أن يونس عليه السلام كان من المسبحين لصار باطنُ الحوت قبرًا له للأبد قبرًا يسير بصاحبه . لكن يونس عليه السلام استغفر ربه سبحه فنجَّاه ربُ العالمين وكذلك ينجى الله عباده المؤمنين ..
(5)
وأُلقى يونس عليه السلام على شاطئ الجزيرة .. وكان جسمه قد فقد مقاومة حرارة الشمس بعد قضاءه تلك الفترة الطويلة فى باطن الحوت
ومن رحمة الله الواسعة أن الشاطئ كان خاليًا من الصخور و إلاّ لتمزق بدن يونس عليه السلام .
يونس الآن في غاية الضعف ، جسمه مشبع بالمياه . وكان يونس عليه السلام منهك القوى ظامئاً . بل كاد يموت من العطش . .
إنّه لا يستطيع الحركة يحتاج إلى استراحة مطلقة في الظل ولكن ماذا يفعل و هو وحيد على الرمال ؟!
فأنبت الله عليه شجرة من يقطين ( القَرْع ) ليستظل بأوراقها العريضة ويأكل من ثمرها ويستعيد قوته وطاقته .
و إن من خواص اليقطين احتواؤه على مواد تفيد في ترميم الجلد وتقوية البدن .
و من خواصّه أنه يمنع عنه الذباب الذي لا يقرب هذه الشجرة .
(6)
استعاد يونس عليه السلام صحته و عاد إلى مدينته نينوى .
و فرح يونس عليه السلام عندما رأى أهلها يستقبلونه و هم فرحين برحمة الله ..
لقد آمن الجميع ، فكشف الله عنهم العذاب..
ولكم حزن أهل نينوى عندما ذهبوا الى الشاطئ يسألون عن نبيهم بعد خروجه لعل أحدًا رآه .. فلما رجع ركاب السفينة الى الشاطئ حكوا ما حدث لهم . وكيف أُلقى يونس ! وكيف ابتلعه ذلك الحوت أمام أعينهم !
فظن أهل نينوى أنهم فقدوا نبيهم للأبد ...
ولقد كان يومًا مشهودًا يوم رجوع يونس عليه السلام إليهم لقد ترك الرجال مراعيهم ومواشيهم ..
وتركت النساء البيوت وخرجن لاستقبال نبى الله يونس عليه السلام .. حتى الأطفال أقبلوا لتحيته واستقباله ..
لقد كان عيدًا كبيرًا للمدينة لم ولن ترى مثله ...
وكما يُقال : إن حسنات الأبرار سيئات المقربين..
فإن فرار يونس عليه السلام من قريته الجاحدة المعاندة ، لو صدر من أي إنسان صالح ، لكان ذلك منه حسنة يُثاب عليها. فهو قد فرَّ بدينه من قوم مجرمين .
ولكن يونس عليه السلام نبي أرسله الله .. وما عليه إلا البلاغ ..
خروجه من القرية إذن.. في ميزان الأنبياء.. أمر يستوجب تعليم الله تعالى له وعقابه ..
فليس عليه النتائج ، إنما عليه البلاغ والدعوة .. هذه حدود مهمته وليس عليه أن يتجاوزها ..
ولقد خرج يونس عليه السلام بغير إذن .. فشاءت إرادة الله سبحانه أن يؤمنوا جميعًا ولم يتخلف منهم أحد ليعلم يونس عليه السلام وجميع الرسل والدعاة أن الأمر كله لله وليس لأحد ..
وحرصًا من النبى على أن يستقر هذا المعنى فى نفوس المسلمين عن النبي الكريم يونس بن متى عليه السلام .. قال لَا تُفَضِلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى. وقال : لَا يَنْبَغِى لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى
تلك قصة النبى الصالح يونس .. ذا النون .. يونان .
وقد ذكر الله تعالى قصة يونس وقومه ...
فقال تعالى في سورة الصافات :
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) سورة الصافات، الآيات : 139 ـ 148 .
وقال تعالى في سورة الأنبياء :
وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
سورة الأنبياء ، الآيات : 87 ـ 88 .
[b]